2>كثر الخوض في بيان حقيقة الإيمان ومسألة التكفير وأخذ من لا يريد خيرا بالمسلمين يلقي بذورها المنحرفة بينهم من خلال وجهتين ضالتين ومذهبين باطلين :
أحدهما : في جانب الغلو والإفراط في نصوص الوعيد وهو مذهب الخوارج الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه بشقيه شيئاً واحداً ، إذا زال بعضه زال جميعه فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو تكفير مرتكب الكبيرة " .
ومن آثاره : فتح باب التكفير على مصراعيه ، مما يصيب الأمة بالتصدع والانشقاق وهتك حرمات المسلم في دينه وعرضه .
وثانيهما : في جانب التقصير والجفاء والتفريط في فهم نصوص الوعد ، والصدِّ عن نصوص الوعيد وهو مذهب المرجئة الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان فجعلوه شيئاً واحداً لا يتفاضل وأهله فيه سواء ، وهو : " التصديق بالقلب مجرداً من أعمال القلب والجوارح " وجعلوا الكفر هو " التكذيب بالقلب ، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه " فأنتج هذا مذهبهم الضال : " وهو حصر الكفر بكفر الجحود والتكذيب " المسمى : " كفر الاستحلال " . ومن آثاره : فتح باب التخلي عن الواجبات والوقوع في المحرمات وتجسير كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات مما يؤدِّي إلى الإنسلاخ من الدين وهتك حرمات الإسلام . نعوذ بالله من الخذلان .
كما يلزم عليه عدم تكفير الكفار ، لأنهم في الباطن لا يكذبون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يجحدونها في الظاهر كما قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام/33 ] .
وقال - سبحانه - عن فرعون وقومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماًَ وعلواً } [ النحل/14 ] .
و لهذا قال إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - " لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة " .
وقال الإمام الزهري - رحمه الله تعالى - : " ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه - يعني : الإرجاء - " رواه ابن بطة في : "الإبانة" .
و قال الأوزاعي - رحمه الله تعالى - : " كان يحيى بن كثير و قتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " .
و قال شريك القاضي - رحمه الله تعالى - وذكر المرجئة فقال : " هم أخبث قوم , حسبك بالرفض خبثا , و لكن المرجئة يكذبون على الله " .
وقال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - : " تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري " [ الفتاوى : 7/394 - 395 ]
و عن سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - : " أن المرجئة يهود أهل القبلة , و صابئة هذه الأمة " [ رواه ابن بطة وغيره ]
* لوازم الإرجاء الباطلة :
و إنما عظمت أقوال السلف في الإرجاء , لجرم آثاره , ولوازمه الباطلة , و قد تتابع علماء السلف على كشف آثاره السيئة على الإسلام و المسلمين .
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في الرد على المرجئة : " ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره , و إن أقر بالزكاة في الجملة و لم يجد في كل مائتي درهم خمسة : أنه مؤمن , فيلزمه أن يقول : إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه , و صلى للصليب , و أتى الكنائس و البيع , و عمل الكبائر كلها , إلا أنه في ذلك مقر بالله , فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا . و هذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم " انتهى .
ثم قال بعده شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : " قلت : هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم , جمع في ذلك جملا يقول غيره بعضها . و هذا الإلزام لا محيد لهم عنه .. " انتهى [ الفتاوى 7/401 ]
ثم إن هذه اللوازم السيئة على قول المرجئة التي ذكرها الإمام أحمد , بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في " الفتاوى : 7/188-190 " .
ثم قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في : " النونية " ناظما لآثار الإرجاء ولوازمه الباطلة هذه :
وكذلك الإرجاء حين تقر بالــ **ـمعبود تصبح كامل الإيمان
فارم المصاحف في الحشوش و خرب الـ ** ـبيت العتيق وجد في العصيان
واقتل إذا ما استطعت كل موحد ** وتمسحن بالقس والصلبان
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا **من عنده جهرا بلا كتمان
وإذا رأيت حجارة فاسجد لها ** بل خر للأصنام و الأوثان
و أقر أن رسوله حقا أتى ** من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا ** وزر عليك وليس بالكفران
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم ** من كل جهمي أخي شيطان
وقال - رحمه الله تعالى - في : إعلام الموقعين : في بيان تناقض الأَرْئَتِيَّة : " ومن العجب إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان , و أنه مجرد التصديق , والناس فيه سواء , وتكفير من يقول : مُسَيْجِدْ , أو فُقَيْه , أو يصلي بلا وضوء أو يلتذ بآلات الملاهي , ونحو ذلك " انتهى .
وكشف عن آثار الإرجاء ولوازمه الباطلة الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - [ فتح الباري "11/270 . وانظر فيض القدير : 6/159 . و أصله في شرح المشكاة للطيبي : 2/477 ] : " قال الطِّيبي : قال بعض المحققين : وقد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف و إبطال العمل , ظنا أن ترك الشرك كاف !! و هذا يستلزم طي بساط الشريعة و إبطال الحدود , و أن الترغيب في الطاعة و التحذير من المعصية لا تأثير له , بل يقتضي الانخلاع عن الدين , و الانحلال عن قيد الشريعة , و الخروج عن الضبط , والولوج في الخبط , وترك الناس سدى مهملين , وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى , مع أن قوله في بعض طرق الحديث : " أن يعبدوه " يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية , وقوله : " ولا يشركوا به شيئا " يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي , فلا راحة للتمسك به في ترك العمل , لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض , فإنها في حكم الحديث الواحد , فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها . وبالله التوفيق " انتهى .
وفي كتاب " صفوة الآثار و المفاهيم " في فوائد قول الله تعالى : { إياك نعبد و إياك نستعين } قال مبينا أن القول بالإرجاء دسيسة يهودية وغاية ماسونية [ 1/187 للشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله تعالى - ] :
" التاسع و الثمانون بعد المائة : تعليم الله لعباده الضراعة إليه بـ { إياك نعبد و إياك نستعين } إعلام صريح بوجوب الصلة بين الإيمان والعمل , وأنه لا يستقيم الإيمان بالله ولا تصح دعواه إلا بتحقيق مقتضيات عبوديته , التي هي العمل بطاعته , وتنفيذ شريعته , وإخلاص القصد لوجهه الكريم , والانشغال بمرضاته , والعمل المتواصل لنصرة دينه , والدفع به إلى الأمام بجميع القوى المطلوبة ؛ ليرتفع بدين الله عن الصورة إلى الحقيقة , وأن المسلم لا يجوز له الإخلال بذلك , ولا لحظة واحدة .
وإن الدعوات لمجرد إيمان خال من العمل هي إفك وخداع وتلبيس , بل هي من دس اليهود على أيدي الجهمية , وفروعها من المرجئة كالماسونية , وغيرهم , إذ متى انفصمت الصلة بين الإيمان والعمل ، فلن نستطيع أن نبني قوة روحية نقدر على نشرها والدفع بمدها في أنحاء المعمورة , بل إذا انفصمت الصلة بين الإيمان و العملفقد المسلم قوته الروحية , وصار وجوده مهددا بالخطر , الذي يزيل شخصيته أو يذيبها في بوتقة غيره , لأنه لا يستطيع أن ينمي قوة روحية يصمد بها أمام أعدائه , فضلا عن أن يزحف بها عليهم " انتهى .
وبالجملة فهذان المذهبان : مذهب الخوارج ومذهب المرجئة , باطلان , مُردِيَان ، أثَّرا ضلالاً في الاعتقاد , وظلما للعباد ، وخرابا للديار , وإشعالا للفتن , ووهاءً في المد الإسلامي , وهتكاً لحرماته وضرورياته , إلى غير ذلك من المفاسد والأضرار التي يجمعها الخروج على ما دلت عليه نصوص الوحيين الشريفين ، والجهل بدلائلها تارة ، وسوء الفهم لها تارة أخرى وتوظيفها في غير ما دلت عليه , وبتر كلام العالِم تارة , والأخذ بمتشابه قوله تارة أخرى .</TD></TR></TABLE